ملامح يونانية في الأدب العربي - مدونة هدف
مدونة هدف مدونة هدف
test banner

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

ملامح يونانية في الأدب العربي






تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة


الكتاب: ملامح يونانية في الأدب العربي
المؤلف: دكتور إحسان عباس (المتوفى: 1424هـ)
الطبعة: 1
تاريخ النشر: 1977
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
عنوان الناشر: بناية صمدي وصالحة - ص.ب: 5460 /11 بناية برج شهاب - تلة الخياط - ص.ب: 195119 - برقياً: موكيالي - بيروت
معلومات إضافية: تم طبع هذا الكتاب في كانون الأول (ديسمبر) 1977
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

ملامح يونانية في الأدب العربي
هل ترجم العرب شعراً يونانياً؟ سؤال لم تعد الإجابة عليه بالنفي، بعد أن توفرت لدينا نماذج من الشعر اليوناني المترجم.
هل كانت الترجمة للشعر اليوناني أسراً عارضاً قررته المصادفة المحض؟ أيضاً سؤال لم تعد الإجابة عليه بالنفي، بعد أن وجدت لدينا ترجمة عامة لنماذج من شعر يوناني.
هل توقف اهتمام العرب بالأدب والفكر اليونانيين عند هذا الحد؟ أن هذا الكتاب يحاول أن يبين ايضا كيف عمد العرب إلى مادة الفكر اليوناني والأساطير والخرافات اليونانية فوضعوها في أشكال أدبية متنوعة لتصبح أقرب إلى النفوس، سواء أكان الوعاء الذي اتخذوه لها شعراً أو رسالة أو مقامة.

(1/1)

الإهداء
" إلى رودلف ماخ الصديق العالم،
ذكرى أيام جميلة؟ بصحبته - في برنستون "
إحسان

(1/1)

شكر وتقدير
يدين هذا البحث بالفضل للجامعة الأمريكية في بيروت التي منحتني فرصة التفرغ للبحث العلمي (1975 - 1976) ثم لجامعة برنستون التي استضافتني سنة أخرى (1976 - 1977) لأتمكن من إنجاز دراساتي، وفي مقدمتها هذه الدراسة؛ وأنا إذ أشكر للجامعتين فضلهما الكبير؟ على المستوى العام - أحب أن أنوه بالمساعدات القيمة التي تلقيتها من أصدقائي الأساتذة في دائرة دراسات الشرق الأدنى؟ على المستوى الخاص - فلهم جميعا أوفى الشكر والتقدير؛ وما كان البحث أن ينجز على هذا النحو، لولا المكتبة الغنية بجامعة برنستون، ولولا العون الذي تلقيته من الصديق رودلف ماخ الذي يسر لي الاطلاع على كل ما احتاجه من مخطوطات، وكان اطلاعه الغزير نعم العون لي في كثير من المواقف. وأخيرا؟ وليس أخرا - أجد هذه الدراسة مدينة بالفضل للدكتورة وداد القاضي التي قدمت لي مساعدات قيمة فيما يتصل بالمراجع الألمانية المعتمدة في هذا البحث، وقرأت المسودة؟ قبل ذهابها إلى المطبعة - ونبهتني فيها إلى أمور كثيرة؛ فالله يجزيها عني وعن العلم خير الجزاء.
إحسان عباس

(1/2)

تمهيد
يمثل هذا البحث في مجموعه - محاولة للإجابة على سؤالين يختلطان معا أحيانا، أولهما: ماذا ترجم العرب من أدب يونان، وثانيهما: ما هي الطرق التي استغل فيها الأدب العربي الثقافة الإغريقية، سواء أكانت تلك الثقافة علما أو أدبا أو فلسفة. ومهما يكن من شيء، فإن القول بتقبل الأدب العربي لمؤثرات أجنبية، ليس انتقاصا من أصالته، أو استهانة بعناصر تلك الأصالة؟ على أساس من هذا الإيمان، جرى القلم في فصول هذا البحث، وفي تطويره، بعد أم كانت نواته الأولى محاضرة بالإنكليزية، ألقيتها في جامعة هارفارد، بتاريخ 25 آذار (مارس) 1976.
وإذ تحدد السؤالان على هذا النحو، وجدتني أبذل الجهد في الإجابة عليهما من زاوية الأدب العربي وحده، فتلك خطوة ضرورية، وإن لم تكن مكتملة، وحسبي أن أضع أمام الدراستين ما يمكن أن يكون تمهيدا متواضعا لبحوث أخرى قد تجد من يحققها بوسائل أكثر واستعداد أشد، فإذا استطاعت هذه المحاولة أن تثير بعض الجهود إلى ذلك، فإنها لن تكون غير ذات نفع.
جامعة برنستون 20 يناير (كانون الثاني) 1977

(1/3)

نظرة في مصادر هذا البحث (1)
لما كانت الزوايا التي تحاول هذه الدراسة أن تلم بها متعددة، لم يكن من الطبيعي أن تستقطبها نواة واحدة مشتركة من المصادر، تعد أصلا تتفرع عنه سائر المصادر والمراجع، فربما كانت إشارة صغيرة في كتاب كبير لا علاقة مباشرة له بالثقافة اليونانية ذات أهمية بالغة في لفت نظر القارئ إلى حقيقة كبيرة؛ ولهذا كان على الدارس ألا ييأس من تتبع المصادر على اختلاف موضوعاتها ومنتمياتها، وإن أدى به الأمر إلى أن لا يعثر على شيء يستند المقولة الكبرى في بحثه. وأنا على يقين من أن التفلية الدقيقة لمصادر أخرى لم يتح لي أن أطلع عليها، رغم ما بذلته من جهد شاق في تتبع المصادر الميسورة، سواء منها ما أثبته في قائمة المراجع وما لم أثبته، جديرة بأن تضيف إلى هذا الموضوع استطلاعات جديدة، وفي كل حين تجود الأيام بمستكشفات لم تكن متيسرة، وينتفي القول التعميمي: " ما ترك السالف للخالف شيئا " انتفاء تاما.
وهنالك حقيقتان لا بد من الإشارة إليهما لاتصالهما اتصالاً مباشرا بالتيار العام في هذه الدراسة؛ أولهما أن عهد الترجمة لم ينتظر مجيء المأمون، ولا كان وليد رغبته الجارفة في الثقافة الهيلينية، وإنما كان قد بدأ قبل ذلك بكثير، في فترة ما في الدولة الأموية (بين سنتي 105 - 132) ، والشواهد على ذلك مثبتة في مقدمتي على عهد أردشير (2) ؛ وقد اتجه البحث إلى هذه الناحية، وظهرت فيه نتائج طيبة، وإن لم تبلغ بعد مرحلة القول الفصل في هذا الأمر (3) ؛ وفي سبيل تأكيد هذا الاتجاه، وقفت عند المحتوى اليوناني؟ في أدب الرسالة - كما يمثله عبد الحميد الكاتب. وثانية الحقيقتين ظاهرة المنافسة بين أنصار الثقافة الفارسية وأنصار الثقافة اليونانية (4) ؛ ففي المرحلة
__________
(1) حين لا اثبت المراجع هنا، فمعنى ذلك أنني أحيل القارئ على ثبت المراجع في آخر الكتاب.
(2) انظر عهد أردشير: 33 - 34.
(3) انظر مقالتي غرنياسكي (ثبت المراجع) ودراسة ديمتري غوتاس: 444 وما بعدها.
(4) راجع ما كتبه الدكتور عبد الرحمن بدري في مقدمته على " الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام " (جا) (المقدمة ص6 - 9) حول هذه المنافسة.

(1/4)

الأولى؟ فترة سالم الكاتب وابن المقفع - تغلب أنصار الثقافة الفارسية، إذ لم يستطع سالم؟ فيما يبدو - وهو ميال إلى الثقافة اليونانية، أن يباري منافسا قويا مثل ابن المقفع الذي اضطلع بدور كبير في نقل الثقافة الفارسية، بل يبدو أنه كان حينئذ نقلة آخرون لتلك الثقافة عدا ابن المقفع، وشاهد ذلك الكتاب الذي رآه المسعودي باصطخر سنة 303 وكان مما ترجم عن الفارسية لهشام بن عبد الملك، وفيه علوم كثيرة من علوم الفرس وأخبار ملوكهم وأبنيتهم وسياستهم مما لم يوجد في كتب أخرى (1) ؛ وما دام المسعودي لم ينسبه إلى ابن المقفع، فربما أشار هذا إلى وجود مترجم آخر أو مترجمين آخرين. وكان أكثر المنقولات عن الفارسية يتصل بالسياسة عامة؛ سواء أكانت الكتب المترجمة تتناول قواعد السياسة النظرية أو العهود أو سير الملوك أو آداب الآيين، حتى وقر في النفوس حينئذ أن " السياسة " مقصورة على الفرس، مثلما أن فضيلة الشعر مقصورة على العرب؛ ولهذا كان اتجاه سالم ومن حوله ينحو نحو ترجمة آثار سياسية يونانية دون سواها، وكان في مقدمة ذلك تلك الرسائل المنحولة لأرسطاطاليس، ليوازوا بذلك جهود أنصار الثقافة الفارسية في هذا المضمار.
ومع أن الحقبة الثانية من حقب الترجمة قد اتجهت إلى الآثار اليونانية الفكرية والعلمية، وعرجت على النصوص السياسية تتطلبها حيثما وجدتها، وترجمها إلى العربية، فإن الصبغة " الفارسية " في السياسة، ظلت هي المسيطرة في هذا الجانب الثقافي، وخاصة لأن أغلب السياسيين حول المأمون كانوا من الفرس، حتى المأمون نفسه لا يزال يأمر معلم الواثق بالله أن يعلمه؟ بعد كتاب الله - عهد أردشير ويحفظه كليلة ودمنة (2) ؛ وقد ظلت طبقة البيروقراطية في الدولة تتجه نحو الثقافة الفارسية، فالكاتب يكتفي بأن يروي لبزرجمهر أمثاله، ولأردشير عهده ولابن المقفع أدبه، وبأن يصير كتاب مزدك معدن علمه ودفتر كليلة ودمنة كنز حكمته (3) ؛ ويظل الحذر من الثقافة اليونانية إلى ما بعد ذلك بزمن عند مؤلفي كتب الأدب، أمثال ابن قتيبة، فإن ما أورده مما يتصل بالسياسة من تراث الفرس، لا يقف إلى جانبه تلك الأقوال
__________
(1) التنبيه والإشراف: 106.
(2) المبرد: الفاضل: 4 وانظر عهد أردشير: 34.
(3) ذم أخلاق الكتاب (في ثلاث رسائل للجاحظ) : 42.

(1/5)

اليسيرة التي نسبها إلى اليونانيين؛ وقد عبر ابن قتيبة عن هذا الحذر في أدب الكاتب حين قال يصف المثقف في عصره: " وأنحرف إلى علم قد سلمه له ولأمثاله المسلمون، وقل فيه المتناظرون، له ترجمة تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم، فإذا سمع الغمر والحدث الغر قوله: الكون والفساد، وسمع الكيان المفردة، والكيفية والكمية والزمان والدليل والأخبار المؤلفة راعه ما سمع؟.. " (1) .
وتمثل تلك الصرخة التي أطلقها ابن الداية؟ الذي كان هو وأبوه من محبي الثقافة اليونانية - حلقة في سلسلة تلك المنافسة بين أنصار الثقافتين، في حقل السياسة على وجه الخصوص؛ إذ يتصور ابن الداية أن شخصا قد أخذ يبين؟ بحق - فضل الفرس في السياسة، ولكن جماح التعصب لم يقف به عند هذا الحد، وإنما دفعه إلى تنقص اليونانيين في هذا الشأن، وكرر ذلك على سمع صاحبه، مما اضطر ابن الداية إلى أن يقدم له نموذجا من آراء اليونانيين في الحقل السياسي لكي يستطيع صاحبه أن يدرك " محلهم من حسن السيرة وفضلهم على غيرعم في السياسة " (2) ؛ وسواء أكانت هذه التوطئة " حيلة " تأليفية، أو حقيقية واقعة، فأنها تصور رد ابن الداية على طغيان الأدب السياسي الفارسي حينئذ.
وكان على أنصار الثقافة اليونانية أن يقوموا برد آخر، في حقل متصل بالسياسة، وهو " الآداب "، فقد كاد يستقر في الأذهان أيضا أن قواعد الآداب وقف على الفرس؛ ولهذا نرى جهودا كبيرة تبذل في حقبة الترجمة على يد حنين وغيره من التراجمة لنقل الأقوال الحكمية اليونانية، موازاة لما يقوم به أنصار الثقافة الفارسية أمثال الحسن بن سهل من نقل جاويدان خرد وغيره من آثار الفرس (3) ؛ وكان ما ينقله
__________
(1) أدب الكاتب: 3 - 4، ويعد ابن عبد ربه في العقد عالة على عيون الأخبار، ومع ذلك الأقوال المنسوبة لليونانيين تقل عنده، وتندرج تحت كلمة مبهمة مثل " وقال الحكماء " أو تنسب لشخصية عربية، وعن موقف ابن عبد ربه من " العلوم الجديدة " انظر بخاصة: إحسان عباس، تاريخ الشعر الأندلسي (عصر سيادة قرطبة) : 137 (ط:1960) .
(2) الأصول اليونانية: 3 - 4.
(3) خارج نطاق هذه المنافسة، كانت ترجمة العلوم والفلسفة انتصارا واضحا للثقافة اليونانية، ولذلك نرى حتى بعض المنتمين إلى الثقافة الفارسية. يحاول أن يحاكي المأمون في شغفه بذلك، مثال ذلك طاهر بن الحسين الذي طلب إلى أبي قرة أسقف حران أن يترجم له كتاب أرسطاطاليس في فضائل النفس (مخطوطة كوبريللي:66) . ومثل بني المنجم الذين كانوا يرزقون جماعة من النقلة في الشهر خمسمائة دينار للنقل والترجمة والملازمة (القفطي: 30 - 31) ويمكن ذكر أمثلة عديدة في هذا الصدد.

(1/6)

التراجمة من تلك الأقوال يقع تحت اسم ((Gnomonologia أو (Florilegia) ويضم أقوالا حكمية وأشعاراً لا تفترق في كثير عن الأقوال الحكمية، وأكثر المقصود فيها الغاية الأخلاقية، كما تؤدي إليه لفظة " أدب " التي تطلق على ما يترجم أو ينقل عن الفارسية، وقد لقيت تلك الأقوال عناية كبيرة، وخاصة بعد مرحلة الترجمة، إذ أفردت بالتأليف، أو نثرت على نطاق واسع في الكتب الأدبية.
ومن الممكن أن نتبين في هذه الدراسة أربعة خطوط متوازية في مختلف فصولها، إذ هي تعالج الشعر المترجم، وتحوير الحكم النثرية في صور شعرية، وتشكيل الأدب السياسي في قوالب وصور أدبية، واللقاء على مستوى الأمثال والخرافات والأساطير بين الأدبين، ومن ثم كان من الممكن أيضا معالجة مصادرها في أربعة أقسام كبرى:
1 - مصادر الشعر:
إن القول بأن العرب عرفوا الشعر اليوناني؟ أو على وجه أدق تلقوا ما عرفوه منه - بطريقة عارضة (1) ، لا يزال يلجأ إلى النماذج الشعرية التي وردت في ترجمة كتابي الشعر والخطابة لارسطاطاليس، وفي بعض التعليقات عليهما، وقد استطاعت النماذج الواردة في هذين الكتابين، رغم ما أصاب بعضهما من تحريف؟ أن ترسخ في نفوس طلاب الثقافة اليونانية أهمية أوميرس (2) وتدل على مكانته بين اليونانيين وخاصة لدى ارسطاطاليس الذي كان يحتفظ بديوان شعره معه فلا يفارق متكأه (3) . ويمثل كتاب " تحقيق ما للهند من مقولة " وكتاب " الآثار الباقية " للبيروني مصدرا هاما لبعض الأقوال الشعرية العارضة، التي تتميز عن النماذج الأخرى المنقولة بدقة قرابتها إلى الأصل، وبصحة نسبها. ويقدم كل من البيروني وتاريخ أوروسيوس (هروشيس) نموذجين للجو العام الذي عاش فيه الشعر اليوناني نفسه، أعني بذلك جو الأسطورة، إذ يوردان عددا من
__________
(1) هذا هو رأي كريمر في مقالته (انظر ص:263) وراجع رأي روزنتال في The Glassical Heritage p.255. حول هذا الموقف نفسه.
(2) هذه هي الصورة التي اخترناها هنا وفي سائر الكتاب، وإن كان الاسم يرد في صور مختلفة، ويرد عند المحدثين بصورة " هومر " أو هوميروس؟ الخ.
(3) صوان الحكمة (طهران) : 192.

(1/7)

الأساطير اليونانية، كما ينفرد أوروسيوس بنشر المعلومات عن الشعر الروماني وشعراء الرومان، وعلى التوسيع من مدلول كلمة " شعر " وعلى مشاركة عدة أمم فيه. ويمكن الإضافة إلى هذه المنقولات العارضة، وخاصة من الأقوال والأشعار المنسوبة إلى أوميرس، إذا تتبع الدارس نصوصا يونانية أخرى مثل الرسائل المنحولة إلى أرسطاطاليس، ففيها غير قليل من تلك الأقوال، ولتلك الرسائل وما شابهها مصادر متعددة، ولكن يمكن الإشارة هنا إلى مخطوطات ثلاث محفوظة في كوبريللي وآيا صوفيا والفاتح (1) .
غير أن ترجمة الشعر اليوناني لم تكن دائما عارضة، وإنما هناك ترجمة عامدة، قصد القائمون بها الشعر لذاته، ونقلوه ليعرفوا العرب بأقوال شعرية يونانية، وقد كان هؤلاء يميزون دائما بين هذه الأقوال الشعرية والأقوال الحكمية، وعلى ذلك فان عدم الصحة في نسبة تلك الأقوال الشعرية لا يقلل من شأن الغاية المعتمدة في ترجمتها، ومن ذلك تلك الأشعار المنسوبة إلى أوميرس التي ترجمها اصطفن بن بسيل (معاصر حنين بن إسحاق) وكلها من اللون الأيامبي. وقد وصلتنا في كتاب " منتخب صوان الحكمة " (2) وعنه نقل بعضها الشهرستاني في الملل والنحل، وهي أقوال تولاها الدارسون المحدثون بالدراسة؟ كما سأعرض عند الحديث عنها في الفصل الخاص بأميرس - وردها إلى أصولها، وقد أصبحت تعرف بين هؤلاء الدارسين بأسم " الأقوال المناندرية " نسبة إلى شاعر يوناني اسمه مناندر (Menander) . ولدى ابن هندو صاحب كتاب " الكلم الروحانية في الحكم اليونانية " فصل يتضمن صورة من هذه الأقوال الشعرية. ونتقدم خطوة أخرى في هذه الترجمة العامدة للشعر حين نجد في كتاب " قطب السرور " للرقيق القيرواني (حوالي 426) مقطعات شعرية؟ أقوالا - تنتمي كلها، بسبب طبيعة الكتاب (إذ هو في وصف الأنبذة والخمور) إلى الشعر الخمري، ولا تزال هذه القطع تتطلب مزيدا من البحث، لردها إلى أصولها، ومعرفة صاحب كل مقطوعة منها على التعيين.
2 - مصادر الحكم النثرية:
ليس من هذه الدراسة البحث في الحكم النثرية نفسها، ولكن التعرف إلى
__________
(1) هي التي تحمل رقم: 1608، 4260، 5323 على التوالي، وقد استخرج الأستاذ غرنياسكي منها بعض أقوال أوميرس، وادرجها في ملحق بآخر مقالته الأولى (انظر فهرس المصادر) .
(2) صوان الحكمة (طهران) : 194 - 203.

(1/8)

مصادرها يعد أمرا ضروريا إلى درس ما جرى لهذه الحكم حين استغلت في الصور الأدبية العربية، وبخاصة عند إدراجها في الشعر. وقد لقيت هذه الحكم عناية واهتماما بالغين خلال العصور، لطبيعتها الإنسانية والأخلاقية، فلم يقتصر الاهتمام بها على طلاب الفلسفة، وإنما شمل بعض الدارسين ممن كان يقف من الفلسفة موقف الحذر أو الانكار، فأدرجت في كتب الأدب من مثل مؤلفات الجاحظ وعيون الأخبار لابن قتيبة والعقد لابن عبد ربه والمجتنى لابن دريد، حيث عقد فصلا مستقلا لأقوال الفلاسفة اليونانيين (1) ، كما نثر أبو حيان التوحيدي عددا كبيرا منها في كتابيه " البصائر والذخائر " و " الامتناع والمؤانسة " وفي كتب أخرى له لم تصلنا، ويبدو أن أبا حيان مر بمرحلتين: مرحلة النقل عن المصادر السابقة، في البصائر، وكانت معرفته بالثقافة الفلسفية لا تزال محدودة، ولذا فهو لا يسمي من الفلاسفة إلا قليلا، ويجعل تلك الأقوال مصدرة بقوله: " وقال فيلسوف " ومرحلة التعرف المباشر إلى الفلسفة عن طريق أبي سليمان المنطقي ومدرسته، كما يبدو ذلك واضحا في الامتناع. وفي محاضرات الراغب الأصفهاني عدد منها وإن لم يكن كثيرا، وعدد أكثر في التذكرة الحمدونية لابن حمدون، وقد جرى أسامة بن منقذ على منهاج ابن دريد في إفراد فصل خاص بها (2) ، بعد أن نثر في تضاعيف كتابه " لباب الآداب " عددا منها، وربما كان ما ورد منها في " ربيع الأبرار " للزمخري معتمدا في أكثره على بصائر التوحيدي. كما اهتم بها المؤلفون في السياسة مثل أبي الحسن العامري في كتابه " السعادة والإسعاد " والطرطوشي في " سراج الملوك "، أو من جمع بين الموضوعين؟ اعني السياسة والأدب - مثل ابن هذيل الأندلسي في كتابه " عين الأدب والسياسة "، ومثل هذه المصادر لا تذكر على وجه الاستقصاء، فذلك أمر يبدو غير مستطاع، لضياع كثير من تلك المصادر، أو لوجود كثير منها في صورة خطية، بعيدة عن متناول الأيدي.
فإذا تجاوزنا هذه المصادر الأدبية والسياسية بحثا عن المصادر الأصيلة لتلك الحكم وجدنا أن العناية بها مرت في مرحلتين: مرحلة الترجمة في الحقبتين المشار إليها آنفا
__________
(1) انظر باب " من نوادر كلام الفلاسفة " في المجتنى: 51 - 57، وقد استأثر هذا الفصل باهتمام الأستاذ فرانتز رونتال، فقام بترجمته وتخريجه ورد بعض الأقوال فيه إلى أصولها اليونانية (انظر ثبت المصادر) .
(2) لباب الآداب: 428 - 467.

(1/9)

أعني فترة سالم الكاتب وفترة حنين بن إسحاق، على وجه لا يقبل الشك أن الحكم التي قالها الفلاسفة عند تابوت الاسكندر، كانت معروفة قبل حنين، وأن هذا ربما رجح ترجمتها في فترة سالم. وفي فترة حنين قام هو نفسه بترجمة كثير من الحكم وكذلك فعل ابنه إسحاق، وتلميذه اصطفن بن بسبيل، وأبو عثمان الدمشقي، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التنسيق والاستقصاء، وقد شغلت هذه المرحلة القرنين الرابع والخامس، والجهود التالية المبنية على ما بذل في هذين القرنين من جهد، وعلى ذلك يمكن ترتيب المصادر الأصلية لتلك الحكم على النحو التالي:
1 - كتاب نوادر الفلاسفة لحنين بن إسحاق: وصلنا برواية شخص اسمه محمد بن علي الأنصاري (1) ، وقد كان هذا المصدر المبكر أصلا معتمدا لدى المؤلفين في هذا الموضوع من بعد، وممن اعتمد عليه اعتمادا كبيرا ابن أبي أصيبعة كما أن مخطوطة كوبريللي (رقم: 1608) تحتفظ بقسم كبير مما نقله حنين، بالإضافة إلى ما نقله إسحاق وغيرهما.
2 - صوان الحكمة الذي يقرن باسم أبي سليمان المنطقي: لم يصلنا هذا الكتاب في صورته الأصلية، وإنما وصلنا في صورتين متفاوتتين، إحداهما تسمى: منتخب صوان الحكمة، والأخرى تسمى مختصر صوان الحكمة، وهذه الثانية من عمل زين الدين عمر ابن سهلان الساوي (2) . وقد اعتمد مؤلف صوان الحكمة على عدة مصادر في طليعتها ما ترجم من أقوال الحكماء على يدي حنين ومدرسته (3) . فقد أثبت الأستاذ رونتال (4) أن الفصل عن تاريخ الأطباء في منتخب صوان الحكمة (5) والمؤسس على مادة مأخوذة من
__________
(1) منه مخطوطة بالاسكوبال رقم: 76 وأخرى في ميونخ رقم: 651، ولم يتح لي الاطلاع عليهما، وقد ترجمه يهودا بن سليمان الحريزي (المتوفى حوالي 1200) إلى العبرية، ونشر هذه الترجمة A.Lowenthal كما قام بترجمته إلى الألمانية (1896) وكانت قد ظهرت له ترجمته أسبانية سنة 1879 (انظر غوتاس: 39 ومقالة شتروماير عن حنين في الموسوعة الإسلامية، الطبعة الثانية) .
(2) ترجم له البيهقي في تتمة صوان الحكمة (أو تاريخ حكماء الإسلام: 132) وقال إنه كان من ساوة وارتحل إلى نيسابور واستوطنها، وكان متعففا يتكسب بالوراقة، فيبيع نسخة من كتاب الشفاء بخطه بمائة دينار. وله تصانيف في المنطق والحساب وغيرهما ورسائل مختلفة، إلا أن مؤلفاته احترقت مع بيته بساوة بعد وفاته.
(3) اعتمدت فيما ذكرته ما يلي عن مصادر صوان الحكمة على رسالة الأستاذ غةتاس: 447 - 449.
(4) صوان الحكمة (طهران) : 98.
(5) Rosenthal F. Ishaq b. Hunayns Tarikh el - Atibba Oriens7 (1954) pp.55 - 80.

(1/10)

(John Philoponus) إنما كان من ترجمة إسحاق بن حنين، كما أن وصية فيثاغورس الذهبية (1) - حسب تقدير الأستاذ أولمان (2) - إنما نقلها مترجم معاصر لحنين أو سابق له. ويقر مؤلف صوان الحكمة نفسه أن الأقوال المناندرية المنسوبة إلى أوميرس من ترجمة اصطفن بن بسيل تلميذ حنين (3) . ووردت في ترجمة ديموقراطيس (4) جملتان أوردهما الجاحظ؟ معاصر حنين - في رسالة التربيع والتدوير (5) ، وقولة لزوسيموس وردت بين أقواله التي أوردها الجاحظ في كتاب الحيوان (6) . ولا ريب في أن هناك مصادر أخرى اعتمدها مؤلف صوان الحكمة، ولكن الكشف عنها لا يتم إلا بعد مقارنة ما في هذا الكتاب بما جاء في غيره من أقوال الحكماء. وقد أفاد الشهرستاني من هذا الكتاب كثيرا في كتابه الملل والنحل في ما أورده من تلك الأقوال، كما أن صوان الحكمة كان أنموذجا لما جاء بعده من كتب في هذا الموضوع.
3 - الكلم الروحانية في الحكم اليونانية لأبي الفرج ابن هندو: وما بين أيدينا منه صورة لم تنل حظها من التحقيق الدقيق كما أنها مؤسسة على مخطوطة ناقصة (7) . ويمثل الكتاب مجموعة قيمة هامة من الحكم، بينها فصل عن شعر اليونان؟ كما تقدم القول - وفصل آخر عن الخرافات اليونانية. وتتميز بعض نصوص ابن هندو بدقتها إذا هي عورضت بالأصول اليونانية.
4 - جاويدان خرد أو الحكمة الخالدة لمسكويه: يجمع أقوالا حكمية للفرس واليونان والعرب والهنود، ومع أن ما يخص اليونان منه لا يمثل إلا جزءا صغيرا فإنه هام للمقارنة مع سائر المجموعات، كما يبدو أنه اعتمد ما نقله حنين ومدرسته.
__________
(1) صوان الحكمة (طهران) : 159.
(2) أولمان: 28 - 29.
(3) صوان الحكمة (طهران) : 204.
(4) صوان الحكمة (طهران) : 194.
(5) رسالة التربيع والتدوير، الفقرة: 190.
(6) الحيوان 1: 140.
(7) نشرت بعناية مصطفى القباني الدمشقي، القاهرة 1900، ويذكر بروكلمان من مخطوطات الكتاب ثلاثا (باريس 5139 والفاتح 4041 وآيا صوفيا 2452) ، انظر غوتاس: 41.

(1/11)

5 - مختار الحكم للمبشر بن أضخم مجموعة لدينا من الأقوال الحكمية، ويتميز بمقدمات تحتوي معلومات بيوغرافية في أول كل ترجمة.
6 - الأحاديث المطربة لابن العبري: للمؤلف كتاب بالسريانية يعرف بالقصص المضحكة، (وقد ترجمه بدج Budge إلى الإنكليزية) ، ولعل الأحاديث المطربة صورة وضعها بالعربية هو نفسه، وهو في ستة عشر فصلا وتحتل اليونانية الفصل الأول، وهذا النص نشره الأب لويس شيخو (1) .
7 - روضة الأفراح ونزهة الأرواح لشمس الدين الشهرزوري، وهو لتأخر مؤلفه في الزمن يعتمد على المجموعات السابقة وخاصة على صوان الحكمة (2) .
ولا تتم صورة المصادر التي تورد الأقوال الحكمية دون العودة إلى أصول أخرى منها الكتب المؤلفة في تراجم الحكماء مثل كتاب ابن جلجل وطبقات الأمم لصاعد الأندلسي وتاريخ الحكماء للقفطي وعيون الأنباء لابن أبي أصيبعة، ومنها مجموعات لا يزال أكثرها مخطوطا، ونميز من بينها في هذا الصدد مخطوطة كوبريللي (1608) والفاتح (4260) وآيا صوفيا (5323) وتمتاز الأولى من بينها بأنها جمعت القدر الأكبر من تلك الأقوال (3) ، ويبدو أن ناسخها (أو جامعها الأول) قد اطلع على عدة صور من الحكم، ولهذا مثلا نجد أن حكم سقراط تجيء في غير موضع واحد، وكذلك هو حال النقل عن حنين وابنه اسحاق، وقد أدرج فيها عهد أردشير وحكم لسليمان بن داود مما يجعل بعض اجزائها غير قاصر على حكم يونان، ومن الهام أن أشير هنا إلى أن ما جاء فيها من حكم فيثاغورس وسليمان وابن سيرا (برسين في لباب الآداب) يتفق وما أورده أسامة في لباب الآداب (443 - 445) ، وإلى جانب هذه المخطوطات الثلاث رابعة بعنوان " مختار من كلام الحكماء الأربعة الأكابر (4) " وهم فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس، وقد قام الأستاذ غوتاس بتحقيقها والتعليق عليها في دراسته
__________
(1) لويس شيخو: مقالات فلسفية: 39 - 60.
(2) لا يزال هذا الكتاب مخطوطا وهو يمثل تاريخا للفلاسفة من أقدم العصور إلى عصر المؤلف (القرن السابع) .
(3) وصف الأستاذ غوتاس هذه المخطوطة وتحدث بتفصيل عن محتوياتها، انظر ص: 43 - 49.
(4) حققت على أساس مخطوطة آيا صوفيا (2460) وآيا صوفيا (2822) وباريس (202) .

(1/12)

التي تكررت الإشارة إليها، وقد اتضح للمحقق مدى صلتها بنص صوان الحكمة من أقوال الحكماء الأربعة، وأنها لا تعدو أن تكون رواية أخرى منه، قد أدخلت عليها بعض الإضافات، وأنها أقرب إلى مختصر الصوان منها إلى المنتخب، وأن جمعها قد تم على الأغلب في الثلث الأول من القرن الحادي عشر (1) .
ولن يفوتنا هنا أن نذكر ذلك الفصل من أقوال الحكماء الذي ورد في كتاب " طب النفوس " لابن عقنين (1226) وهو مؤلف بالعربية مكتوب بحروف عبرية، وقد حقق هذا الفصل وترجمه الأستاذ هالكن، وعليه كان اعتمادي في هذا البحث.
أما الأقوال الحكمية التي رثى الحكماء بها الاسكندر فقد حاولت أن استقصي مصادرها الأدبية والتاريخية، وقد أفردتها في ملحق خاص بها (انظر الملحق الثاني) فلهذا لا حاجة بي إلى التنويه بأهم مصادرها في هذا المقام.
3 - مصادر الفكر السياسي:
سيتضح في هذه الدراسة أن الفكر السياسي اليوناني كان من أهم المواد التي عني الأدباء بالإفادة منها في مختلف الأشكال الأدبية، وفي مقدمة ذلك الرسائل المنحولة لارسطاطاليس، والأخرى المنحولة لأفلاطون. ويتفق الفكر السياسي في كثير من مصادره مع الأقوال الحكمية. ففي صوان الحكمة ومختار الحكم مثلا أقوال كثيرة تتصل بذلك الفكر. وربما كانت المخطوطات الاستانبولية الثلاث؟ المشار اليها من قبل - من أهم المصادر التي حفلت بالنصوص السياسية، كما أن المؤلفات ذات الطابع السياسي الأخلاقي مثل السعادة والإسعاد وسراج الملوك مصدر طبيعي لها. ولا يزال الفكر السياسي بحاجة إلى عناية من تحقيق ودرس، وقد نشرت بعض الرسائل في " مقالات فلسفية قديمة " لشيخو، وفي الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي، ويضم هذا الكتاب عهودا ثلاثة منسوبة لأفلاطون من صنع ابن الداية (وقد أعاد نشرها عمر المالكي بعنوان " الفلسفة السياسية عند العرب " دون أن يشير إلى ما
__________
(1) انظر غوتاس: 429 - 345.

(1/13)

صنعه الدكتور بدوي) وكتاب سر الأسرار المنسوب لارسطاطاليس.
4 - مصادر الخرافات والأمثال:
في اللقاء بين الأدبين على مستوى الأمثال والخرافات، وبخاصة الحكايات على ألسنة الحيوانات، كان لا بد من العودة إلى ثلاثة أنواع من المصادر (أ) كتب الحيوان ككتاب الجاحظ وكتاب الدميري، وليس لدى الجاحظ ميل كبير إلى هذه الخرافات، أما الدميري فإنه يعتمد في هذه الخرافات على مصادر سابقة، (ب) كتب الأمثال، وتحتفظ بعض مصادر الأمثال المبكرة بخرافات قليلة تتصل اتصالا مباشرا ببيئة الجاهلية، ولكن منذ حمزة الأصفهاني يبدو الاهتمام بهذه الخرافات أكثر فقد أفرد في أواخر كتابه " الدرة الفاخرة " فصلا خاصا بها. وتمثل أمثال العامة ذخيرة هامة في هذا المجال، ولهذا كان لابد من الاعتماد على ما أورده الثعالبي منها في " التمثيل والمحاضرة " وما أورده الابشيهي في المستطرف، (ج) كتب الأدب، فقد ورد منها في العقد " جانب. إن لم يكن كثيرا، كما أن التوحيدي؟ الذي أهتم كثيرا بأدب العامة وأمثالهم - قد أورد منها في البصائر عددا غير قليل. واقتفى الراغب الأصفهاني خطوات حمزة فأفرد لها في أواخر محاضراته بابا خاصا، وكذلك فعل أبن الجوزي في كتاب أخبار الأذكياء، وقد حرصت على أن أبعد من هذه الحكايات ما ورد منها في كليلة ودمنة وغيره من المصادر الفارسة مثل " مرزبان نامه " وصنوه " فكاها الخلفاء "، وإذا تجاوزنا هذه المصادر الرئيسية وجدنا هذه الخرافات تستأثر باهتمام ابن هندو فيعقد لها فصلا في كتابه " الكلم الروحانية " وهي تلك الخرافات المترجمة عن يونان، وفي هذا السياق يقع أيضا جهد أبن بطلان فيما يتعلق بالحكايات التي أوردها في رسائله، والتي نقل عنه القفطي بعضها في أخبار الحكماء.
واضح أذن أن المثقفين كانوا يعرفون أن بعض الحكايات ترجم مباشرة عن اليونانية، وبعضها الآخر قديم لا يعرف أصله، ولهذا جرى عرض هذه الخرافات على قصص إيسوب وبابريوس وفايدرس، وعلى الخرافات البابلية واليهودية، من أجل المقارنة، واستيفاء متطلبات هذه الدراسة.

(1/14)

تلك نظرة عاجلة لا تستطيع أن تصور تماما طبيعة المصادر الضرورية في سياق هذه الدراسة، ولكنها تعطي لمحة عنها، على أن نتذكر أن الحاجة إلى مصادر فرعية، كانت دائما ضرورية. وقد أفدت في دراستي هذه من بحوث عدد كبير من الدارسين الغربيين (ممن أثبت أسماءهم وأسماء بحوثهم في ثبت المراجع) ووجدت الكثير من العون في تعليقاتهم وآرائهم، ولولا خطواتهم في هذا الميدان، لكان لهذه الدراسة شأن آخر.

(1/15)

" 1 "
موقف العرب من الشعر اليوناني
ومدى معرفتهم به
إذا وضع الدارس أمام عينيه فرضية مريحة؟ مرهونة بما استكشف حتى اليوم من مصادر - مفادها أن العرب لم يترجموا شعرا يونانيا، ومن ثم لم يتأثر أدبهم بذلك الشعر، لم يبق عليه إلا أن يحشد الأسباب التي أدت إلى ذلك، وخاصة إذا كان هذا الدارس ينظر نظرة مقارنة إلى ما تم في عصور الترجمة من نقل للفلسفة اليونانية وعلوم يونان. فقد يجد؟ وهو محق في ذلك - أن العرب كانوا يرون لهم في شؤون الشعر والبلاغة والفصاحة تفوقا يميزهم عن سائر الأمم، سواء أكان لهذا الشعور ما يسوغه أم لا، وأنهم لذلك كانوا يشعرون أن لا حاجة بهم إلى أخذ تراث الأمم الأخرى، خضوعا لهذا اللون من الاكتفاء الذاتي.
ثم إن الأدب اليوناني، سواء أكان بطوليا أو مسرحيا أو غنائيا، كان يتكئ على تراث وثني، يتعارض تماما والتوحيد الصارم، ولهذا لم يكن في الإمكان ترجمته، فإذا ما ترجم منه شيء؟ مهما يكن قليلا - فلا بد من تحويره ليتفق والروح التوحيدية.
ولما كان العرب يعتقدون أن تميزهم يرجع في الدرجة الأولى إلى القدرة على التعبير، ولما كان عصر الترجمة قد واكب ظهور الشعوبية التي تعيب على العرب تخلفهم في شتى الميادين، لم يشأ هؤلاء العرب أن يقروا بحاجتهم إلى معرفة ما لدى الأمم الأخرى من أدب، فإن مثل هذا الإقرار يسلبهم أبرز أنواع التفوق، أعني الميدان الأدبي.
ومما يدل بقوة على أن العرب لم يترجموا الآثار اليونانية الكبرى في الأدب، ما تم

(1/23)

لديهم حينما ترجموا " كتاب الشعر " الذي يستند على شواهد أدبية، فقد وضح بقوة أن التراجمة والمعلقين على هذا الكتاب من أمثال أبي بشر يونس بن متى والفارابي وابن سينا وابن رشد وحازم القرطاجني، قد عجزوا عن فهم ما فيه من مصطلح وعن الإفادة الصحيحة من قواعده وأحكامه، لأنه لم يكن لديهم أمثلة مترجمة؟ وبالتالي أمثلة أصلية - تدلهم على مفهوم الملحمة أو المأساة.
وفي إبان عصر الترجمة، قرر الجاحظ مبدأ يعد ذا حظ كبير من الصواب، إلا أنه رغم ذلك شديد الخطورة، وذلك هو أن " الشعر لا يستطاع أن يترجم ولا يجوز عليه النقل ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب (1) " ومثل هذا المبدأ من شأنه أن ينفر الناس من ترجمة الشعر إلى العربية، أو يجعل أية محاولة في هذا السبيل قليلة الجدوى، وقد بقي هذا الرأي حيا على الزمن، حتى ردده أبو سليمان المنطقي في (القرن الرابع) حين قال: " ومعلوم أن أكثر رونق الشعر ومائه يذهب عند النقل، وجعل معانيه يتداخلها الخلل عند تغيير ديباجته (2) "، ولكنه لم يكن حائلا دون الترجمة في كل وقت، وإنما اصبح عذرا للمترجم واعتذارا عن الشعر المترجم، إذا هو بدا؟ حقا - فاقد المائية والرونق في شكله النثري.
وقرن الجاحظ إلى مبدأه ذاك مبدأ آخر حين أعلن أن " فضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان العرب (3) "، ولعل هذا الحسم لا يتجشمه إلا من اطمأن من نفسه إلى معرفة واسعة بعدة لغات؟ أو على الأقل باللغات المشهورة في عصره، وهبنا فهمنا أن " فضيلة الشعر " هنا تعني " فضيلة إتقان الشعر " أي البلوغ فيه إلى درجة لا مثيل لها في اللغات الأخرى، فإن هذا المبدأ أيضا حجاب دون شعر الأمم الأخرى، وربما حمل في ذاته، إلى الشعور بالاستعلاء في هذه الناحية، تثبيطا لمن حاول أن يعرف ما لدى تلك الأمم من شعر.
ثم إن قصر " فضيلة الشعر على العرب " أمر داخل فيما أصبح يسمى المميزات الفارقة
__________
(1) الجاحظ: كتاب الحيوان 1: 75.
(2) أبو سليمان المنطقي: منتخب صوان الحكمة، الورقة: 71 وصوان الحكمة (طهران) : 193.
(3) الحيوان 1: 74.

(1/24)

لكل أمة على حدة، وهو شيء يأخذ بالظاهر الأغلب، وعن ذلك عبر صاحب الامتناع والمؤانسة حين قال: " فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم والعلم والحكمة، وللهند الفكر والروية والسحر والأناة، وللترك الشجاعة والإقدام، وللزنج الصبر والكد والفرح، وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان (1) ". ومن أطراف ما يمر به المرء متصلا بهذا الموضوع ما ورد في رسالة السياسة العامية المنسوبة إلى ارسطاطاليس فإن الكاتب يقرن فيها بين العرب والهند في مميزات شتى منها: أنهم على السنة " ولهم الكرم والمروءة والأنفة وبذل الأموال والصبر في اللقاء ولزوم الغيرة والمعرفة بالشعر والسعة في الكلام؟ " ثم ينصح الإسكندر بإن يكثر لهم من المخاطبة " فإنهم يأنسون باللفظ ويميلون إلى حسن الكلام "، ويملي عليه كتابا يكتبه إليهم وفيه: " واعلموا أن الشعر جزء من أجزاء كثيرة من الحكمة فتنازعوا على طلب الحكمة (2) .. "، وفي هذا ما فيه من إقرار اليونانيين أنفسهم بما للعرب من تفوق في هذه الناحية، إلا أنها مفردة لا بد من موازنتها بسائر أجزاء الحكمة، وهذا ما يفسر؟ أو يسوغ - إقبال العرب على ترجمة حكمة اليونانيين والفرس، تتميما واستكمالا لما ينقصهم، حسبما تمليه هذه النصيحة المنسوبة لارسطاطاليس.
ولا ريب في أن موقف الجاحظ كان ينبع من إيمانه العميق بإن العرب ذوو حظ متفرد في البلاغة، وفيهم نزل القرآن لما أوتوا من ذوق أدبي رفيع، وربما زاد من تمسكه بهذه النظرة أمران: أولهما بعض النماذج الأدبية المترجمة، وهذه؟ مهما يكن حظها من الروعة في لغتها الأصلية - تفقد كثيرا من روائها وروعتها حين تقرأ في غير لغتها، والثاني أن الجاحظ كان يتخذ من هذه الفكرة سندا يدافع به عن العرب، ضد الشعوبية، وبه يثبت فضل العرب وتميزهم عن سواهم من الأمم، ويرى في شعرهم " ديوانا " كاملا للمعارف الإنسانية، ويسوءه؟ من ثم - أن يرى كتاب عصره - مدفوعين بروح معادية للعرب وتراثهم - يبحثون عن ثقافتهم في كتاب مزدك ودفتر كليلة ودمنة وأمثال بزرجمهر (3) .
__________
(1) التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة 1: 74.
(2) مخطوطة كوبريللي، الورقة 100، 101 - 102.
(3) الجاحظ: رسالة في ذم أخلاق الكتاب (ضمن ثلاث رسائل) : 42.

(1/25)

ولا أظنه غاب عن الجاحظ أن كل أمة كانت ذات نصيب من الأدب والشاعر، وأن اليوان - بالذات - كان لديهم شعرهم الخاص بهم، وهو الذي يروي أن زوسموس اليوناني سئل كيف يعلم الناس الشاعر، وهو ليس بشاعر، فأجاب: زوسيمون كالمسن الذي يشحذ ولا يقطع (1) .
وحين يبتعد شبح الشعوبية، يصبح الإقرار بحظ الشعوب الأخرى من الشعر والأدب جملة أمرا طبيعيا، يقول الزبير بن بكار: (256/829) كان لي غلام يسوق أهجنا لي ويرطن بالزنجية شيئا يوقع عليه شبه شعر، فمر بنا رجل يعرف لسانه، فاستمع له ثم قال، إنه يقول:
فقلت لها أنى أهتديت لفتية ... أناخوا بجعجاع قلائص سهما
فقالت كذاك العاشقون ومن يخف ... (2) عيون الأعادي يجعل الليل سلما والشاهد أن ذلك الغلام الزنجي كان يتغنى بكلم موزون في لغته، فأما الترجمة لما قال، فإنها تومي إلى تقارب بين المعنيين، في أغلب الظن، لا أنها ترجمة دقيقة.
وفي عصر الجاحظ نفسه سمع حنين بن إسحاق (260/873) ذات مرة ينشد شعرا بالرومية لأوميرس رئيس شعراء يونان (3) ، ولا ريب في أن الذي سمعه وأدرك أنه يتغنى بشعر، وأن الشعر إنما كان لأوميرس، كان يشارك حنينا في الاطلاع على شيء من الشعر اليوناني في لغته الأصلية. وإلى حنين وغيره من التراجمة يعود الفضل في اتساع المعرفة؟ نسبيا - بدور اليونان في الشعر، حتى إذا بلغنا إلى الفارابي وجدنا أن تلك المعرفة بلغت حدا من السعة لم تتجاوزه من بعد إلا قليلا.
ويعتمد الفارابي في أحكامه نظرة موضوعية مقارنة، فهو وقف على أشعار كثير
__________
(1) الحيوان 1: 290 (وكتب هنالك ريسموس) . وفي الكلم الروحانية لابن هندو: 80 - 81 نسب هذا القول إلى سقراط، وجاء منسوبا إلى زوسيموس في منتخب الصوان: 102 (254ط. طهران) وفي العقد 2: 268 نسب للخليل بن أحمد، وفي محاضرات االراغب الأصفهاني 1: 55 لابن المقفع.
(2) التوحيدي: البصائر والذخائر 2: 15.
(3) ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 1: 185.

(1/26)

من الأمم (1) لا على أشعار العرب واليونان وحسب، فعرف أن العرب يعنون بنهايات الأبيات أكثر من سائر الأمم الأخرى، وأنهم لا يجعلون التلحين أو النغم المرافق للإنشاد جزءا من الشعر نفسه، بينما تفعل ذلك بعض الأمم الأخرى، فإذا قرئت أشعارها دون اللحن بطل وزنها (2) ، ويتطرق الفارابي من ذلك إلى مشكلة أخرى وهي: إذا تمت عناصر التخيل في القول ولكنه لم يبن على وزن وإيقاع محدد، فهل يسمى شعرا؟ ويجيب على ذلك بقوله: إنه لا يعد شعرا وإنما هو: قول شعري (3) . ويقارن بين الوزن في الشعر العربي والشعر اليوناني فيرى كلا منهما قائما على وحدات تعرف عند العرب بالأسباب والأوتاد وعند اليونانيين بالمقاطع والأرجل (4) .
وإذا تناولنا الفارابي أصناف الشعر وجد أنها إما أن تتنوع من ناحية الأوزان أو من ناحية المعاني، وهو على وعي بأن العلماء المعاصرين له الذين تحدثوا عن أشعار العرب والفرس تناولها من ناحية المعاني فقسموا الأشعار إلى الأهاجي والمدائح والمفاخرات والألغاز والمضحكات والغزليات (5) ، وما ذلك إلا لأن الشعراء في جميع الأمم خلطوا أوزان أشعارهم بأحوالها، أي أنهم نظموا في المديح أو الرثاء على عدة أوزان، وانفرد اليونان بين الأمم بأن خصصوا لكل موضوع وزنا مستقلا، فوزن المدائح غير وزن الأهاجي، ووزن الأهاجي غير وزن المضحكات (6) ، فإذا قلنا إن من أنواع الشعر اليوناني الطراغوذيا والقوموذيا كان معنى ذلك أن الطراغوذيا يشمل موضوعا ووزنا يحددان طبيعته ويميزانهعن القوموذيا.
وقد عد الفارابي من أنواع الشعر اليوناني ثلاثة عشر نوعا منها الطراغوذيا وديثرمبي وقوموذيا وإيامبو وأفيقي (Epic) وريطوري (7) ، وعرف كل نوع منها، فكان مما قاله في تعريف الطراغوذيا: هو نوع من الشعر له وزن معلوم يلتذ به كل من سمعه من
__________
(1) الفارابي: جوامع الشعر (مع تلخيص ابن رشد) : 171.
(2) المصدر نفسه: 172.
(3) المصدر نفسه.
(4) الفارابي: إحصاء العلوم: 65.
(5) الفارابي: رسالة في قوانين صناعة الشعر (ضمن: فن الشعر) : 152.
(6) المصدر السابق نفسه.
(7) المصدر السابق: 152 - 153.

(1/27)

الناس أو تلاه، يذكر فيه الخير والأمور المحمودة المحروص عليها ويمدح بها مدبر والمدن، وكان الموسيقاريون يغنون بها بين يدي الملوك، فإذا مات الملك زادوا في أجزائها نغمات أخرى وناحوا بها على أولئك الملوك.
وفي تعريف ديثرمبي قال: نوع من الشعر له وزن ضعف وزن طراغوذيا يذكر فيه الخير والأخلاق الكلية المحمودة والفضائل الانستنية، ولا يقصد به مدح ملك معلوم ولا إنسان معلوم لكن تذكر فيه الخيرات الكلية؟ وأما أيامبو فهو نوع من الشعر له وزن معلوم تذكر فيه الأقاويل المشهورة سواء كانت تلك من الخيرات أو الشرور، بعد أن كانت مشهورة مثل الأمثال المضروبة. وكان يستعمل هذا النوع من الشعر في الجدال والحروب وعند الغضب والضجر (1) .
وقد خلص الفارابي من دراسته هذه إلى أن ما شعر به أهل اللسان العربي من القوانين الشعرية بالإضافة إلى ما جاء في كتاب الشعر لأرسطو وفي كتاب الخطابة له أيضا إنما هو نزو يسير (2) ، وإذا كان هذا في ظاهره حكما على عدم اتساع النظرية النقدية عند العرب، فلا بد أن يكون حكما غير مباشر على الشعر نفسه، فقد ذهب الفارابي، وتابعه ابن رشد؟ من تصورهما الخاص لمعنى قيام الشعر اليوناني على الخير و
  1. Gunakan jasa Istana Wedding Organizer agar pernikahan kamu menjadi lebih berkesan seumur hidup.

    wedding organizer pekanbaru Wedding Organizer Pekanbaru
    Paket wedding pekanbaru Paket Wedding Pekanbaru
    wedding organizer pekanbaru Wedding Organizer Pekanbaru
    wedding organizer pekanbaru Wedding Organizer Pekanbaru

    ردحذف

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

عن الموقع

author مدونة هدف  هدف. موقع مهتم بالبرامج الاسلامية والدينية والسنة النبوية.

معرفة المزيد ←

زوار المدونة

احصاءات المدونة

جميع الحقوق محفوظة

مدونة هدف

2020